تاريخ سلطنة فطاني دارالسلام

تاريخ سلطنة فطاني دارالسلام

و تاريخ دخول الإسلام إلى هذه السلطنة

تمثِّل فطاني اليوم مقاطعة في جنوب مملكة تايلاند عاصمتُها فطاني المدينة. وقبل ذلك، فإنَّ التَّاريخ يذكر أنَّ فطاني كانت سلطنةً إسلاميَّة. بل أكبر سلطنة إسلاميَّة وأعظمها شأنا عالَم الملايُو (تانَهْ ملايو) آنذاك. كما في قول المستشرق نيوبولد الذي زار فطاني عام (1511م)، وكتب عنها، ووصفها بأنَّها "أوسعُ ممالك الملايو مساحةً، وأكثرها سكَّانًا".[1] ووصفها الرَّحالة البرتغالي غودينو (Godinho de Eredia)، بأنَّها "ميتروبوليَّة أرخبيل الملايو".[2] ويُرجَّح أنَّ قيام مملكة فطاني كان في أواسط القرن الرَّابع عشر الميلادي. وشهدت فطاني في ظل السَّلطنة الإسلاميَّة حضارةً صاعدةً في المظاهر العمرانيَّة كافَّة بشهادة المؤرِّخين، وشكَّلت قوَّة عظمى رادعة في منطقة جنوب شرق آسيا حافظت على الكيان الإسلاميِّ، وتصدَّت للقوى العظمى في المنطقة آنذاك. بل تصدَّت للزَّحف الاستعماري البرتغالي في أرخبيل الملايو.

وإذا ذُكرت فطاني، فلا شكَّ أن قاماتٍ سامقة من فطاحلة العلماء تتزاحم في الأفق، أمثال الشَّيخ داود بن عبد الله الفطاني (ت1263هـ/1847م)، والشَّيخ أحمد بن محمد زين المصطفى الفطاني (ت1325هـ/1908م)، والشَّيخ زين العابدين بن أحمد الفطاني، والشيخ نيك ماتْ كيشيك الفطاني (ت1915م)، والعلامة المفسِّر الشيخ إبراهيم بن داود بن عبد القادر الفطاني (ت1413هـ/1993م)، وهو الملقَّب بـ"فقيه مكَّة". فهؤلاء وأمثالهم من أبناء فطاني هم ثمراتٌ في شجرة العلماء والزُّعماء الفطانيِّين المباركة، ورافدٌ من روافد هذه السَّلطنة المعطاء التي أفَل نجمُها السِّياسي، وسقطت فعليًّا عام (1786م) على إثر حربٍ ضروسٍ بينها وبين مملكة سِيامْ.[3]

فطاني وقصَّة الإسلام

إنَّ قصَّة سلطنة فطاني الإسلاميَّة لا تكتمل أجزاؤها إلا بالوقوف على ظرف دخول الإسلام إلى هذه السَّلطنة، وهي قصَّة ذات أبعادٍ رؤيَويَّة، ودروسٍ وعِبَر عميقة للدَّاعية المسلم. تؤكِّد أن الدَّاعية -فردًا أم جماعة- كلَّما اهتدى بالهدى النَّبويَّة في دعوة الناس بالحسنى والحكمة، فإنَّ دعوته تعطي أُكلها -عاجلاً أم آجلاً- بإذن الله سبحانه.

تقول القصَّة..[4] إنَّ ملك فطاني الوثني مرض مرضًا شديدًا، تشقَّق به كلُّ جلده (أي أصيب بالبرص)، وأعيا جميع الأطبَّاء والمنجِّمين مرضه؛ فأرسل رُسله في جميع أقاليم مملكته يضربون على طبلة "غُونْغ"؛ ليبلغوا الرَّعيَّة بمرضه، وأنَّ من استطاع علاجه، فإنَّ الملك سيُكافئه بالإصهار إليه، أي سيُزوِّجه ابنته الأميرة. بعد يأس، وصل الطَّبالون إلى قرية باسايْ، وكان بها مسلمون، وعالمٌ داعية اسمُه الشيخ سعيد. حين سمع الشَّيخ بمقولة الطَّبالين قال لرئيسهم: "ارجعْ وقل للملك -باحترام- إنَّي لا أرغب في مصاهرته، ولكن إذا رغب الملك في الإسلام، فسأداويه من مرضه". هكذا، بكلِّ ثقة، وترفُّع وزهد، قدَّم هذا الدَّاعية نفسه إلى المدعوِّين، زهدٌ في الدُّنيا وما فيها من أجل دعوته وعقيدته. وهو هنا ليس انتهازيًّا أبدًا، طالما أنَّ العرض جاء من الملك نفسه. بل إنَّ الشَّيخ باشتراطه إسلام الملك، يُخفِّف عنه مؤونة التَّضحية بابنته، وبولاية العهد إلى غريبٍ بعيد.

لا يكاد الملك يسمع بخبر هذا الشَّيخ حتى يستعجل حضوره، وبعد تأكيد الشَّرط، وتوثيق العهد، عالَجه الشَّيخ؛ فتعافى بإذن الله خلال أيَّامٍ معدودة، عاد بعدها الشَّيخ إلى قريته. وهنا يبرز بُعدٌ آخر للدَّاعية المتزوِّد بجميع الوسائل الممكنة لإنجاح دعوته، وخدمة المحتاجين، برز ذلك في تضلُّع الشَّيخ سعيد في الطِّب الشَّعبي، أو -على الأقلِّ- في علاج نوع معيَّن من الأمراض.

يمضي عام، فعامان على هذه الحادثة دون أن يَفيَ الملك بوعده الذي قطعه للشَّيخ، ولكن هذا الدَّاعية الحصيف يظلُّ صامتًا، لا يرفع عقيرته، ولا يقيم الدُّنيا بالشَّجب على الملك. بل يعذره؛ لما علم من وطأة التَّقاليد، وقوَّة المعتقدات الوثنيَّة الهندوسيَّة عليه، وهو -بعدُ- ليس إسلامُه إسلامًا عابرًا، وأمرًا شخصيًّا، ولكنَّ إسلامه يعني إسلام مملكة وشعب.

يشاء الله القدير أن يمرض الملك ثانيةً، فيفزع للبحث عن الشَّيخ سعيد، وحين جاءه الشَّيخ، اعترف الملك له بخطئه، ووعد أنَّه سيسلم إذا تعافى من مرضه، وهنا لقَّن الشَّيخ الملك حقيقة غائبةً عنه، وعن كثيرٍ من عباد الله.. قال له: "إذا كنتم مخلصين في وعدكم، فإنَّني سأعالج جلالتَكم، ولكن إذا لم تكونوا صادقين في كلامكم، فإن علاجي لن ينفعكم". حقيقةٌ ذهبيَّة غائبة، تبرز مدى توكُّل هذا الدَّاعية على ربِّه، وثقته به، وتجرُّده عن كلِّ رياء؛ إذ أناط شفاء الملك بمدى صدقه في الوعد، وذكَّره أنَّه -أي الشَّيخ- مجرَّد وسيلة، وأنَّ هناك قوَّة ربَّانية هي التي تمنح الشِّفاه، ولكنَّه شفاءٌ منوطٌ بمدى صدق الملك وإخلاصه.

ويبدو أنَّ الملك كان صادقًا مع نفسه في تلك اللَّحظة؛ إذ عالجَه الشَّيخ سعيد لعدَّة أيام، تعافى بعدها؛ فاستأذنه الشَّيخ بالعودة إلى بلدته. وهنا أيضًا دلالةٌ عميقةٌ في استعجال الشَّيخ بالعودة حتى لا يُحرجَ الملك، أو يتعرَّض هو نفسُه للمغريات أو لرشاوى ومكافآت أخرى تحجُب الوعد الأساس الذي تمَّ إبرامه بينهما.

مضى عام آخر، وعاد المرض مرَّة ثالثة، وهو أشدُّ وطأة من ذي قبلُ، وحين جاء رسول الملك إلى الشَّيخ سعيد، كان لا بدَّ من موقفٍ حازم من لدُن الدَّاعية، يرسم الحدود الحمراء، ويحمي دعوته من التَّلاعب بها. قال للرَّسول: "ارجعْ إلى الملك وأخبره أنَّني لن أداويه أيضًا؛ لأنَّه لم يَفِ لي بوعوده". حين أبلِغَ الملكُ كلامَ الشَّيخ سعيد، أوفد إليه كبيرَ حجَّابه يستعطفه ويقول له: "إذا عوفيت هذه المرَّة، فإنني لن أخلف وعدي، وحقِّ آلهتي. إن خالفتُ وعدي، فلا عوفيتُ بعد ذلك أبدًا". هنا أيضًا تجلَّت حكمة الدَّاعية في أعلى آفاقها، فحين سمع مقالة الملك، قال للحاجب: "حسنًا، لتكن آلهةُ الملك شهودي، ولتكن هذه الأخيرة، وإلا فإنَّني لن أعالجه البتَّة". إذن، لم يجد الشَّيخ غضاضةً في الاحتكام إلى "آلهة الملك" طالما أنَّه لا توجد -حتى الآن- مرجعيَّة عقدية مشتركة بينه وبين الملك. ولعلَّ هذا الموقف مستوحًى من الموقف النَّبويِّ الحكيم في ترك البسملة في معاهدته مع قريش بالحديبيَّة.

هكذا، حين قدِم الشيخ لمعالجة الملك، أكَّد له الوعد مرَّة أخرى، وذكَّره أنَّه لن يعالجه بعد هذه المرَّة إن هو أصرَّ على الكفر.. "إنَّني لن أعالجكم بعد ذلك إذا مرضتم، ولو عزمتم قتلي، فأنا راضٍ بذلك". ولا شكَّ أن الملك قد وعى الدَّرس، وأيقن أن الشَّيخ قد أعذر إليه في ثلاث مرَّات، وأن السَّيل قد بلغ الزُّبى. وإذا كان هذا الدَّاعية قد وضع نفسه وروحه في كفَّة ميزان، والإسلام في كفَّة أخرى، فما كان للملك -وقد شهد هذا الصِّدق والإخلاص من أجل المبدأ والدَّعوة- إلا أن يجاري الشَّيخ، ويحزم أمرَه، ويحسم موقفه.

عليه، لم يمض أكثر من شهر على علاجه وشفائه، إلا وجمَع وزراءه وقوَّاده، والكَهنة والخدَم بالقصر، وأطلَعهم على عزمه في اعتناق الإسلام، ولم يُواجَه باستنكار ظاهر منهم. أرسل إلى الشَّيخ سعيد؛ فجاءه، وحين علم الشَّيخ بعزم الملك على الوفاء بوعده، استبشر، وقبَّل يد الملك، ثم لقَّنه كلمة الشَّهادة، ولقنها كذلك القوَّاد والكهنة والخدم. وعرض على الملك أن يختار لنفسه اسمًا إسلاميًّا "حتى يحظى بمزيدٍ من البركة، وبشفاعة النبي محمَّد رسول الله (ص) في الآخرة". وهنا فوَّض الملك المريد هذا الأمر إلى الشَّيخ الأستاذ؛ فاختار له اسم "السلطان إسماعيل شاه ظلُّ الله في العالَم" وبوصفه أبًّا رحيمًا يحمل همَّ أبنائه، فإنَّ الملك طلب من الشَّيخ أن يعطيهم أسماء إسلاميَّة "حتى يكمُل إسلامه"، وكان له ثلاثة أبناء، سمَّى الشيخ سعيد الأوَّل: السُّلطان مظفَّر شاه، والبنت الوسطى: سيتي عائشة، والأصغر: السُّلطان منظور شاه… ترصدُ بقيَّة فصول القصَّة تحوُّل هذه المملكة الوثنيَّة إلى الإسلام في مظاهرها السياسيَّة والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة.

بالإجمال، فإنَّ إسلام ملك فطاني وحاشيته كان الانطلاقة الأولى للمسيرة الحضاريَّة الإسلاميَّة التي سبقت الإشارةُ إليها، وكانت تلك الانطلاقة بتوفيق الله سبحانه، ثم بحصافة داعية فذٍّ يتحلَّى بالحكمة والصَّبر والأناة، وتلك آلاتٌ دعويَّة دائمة المفعول في كلِّ عصر، وتحت كلِّ سماء.
from.........http://www.ambranews.com/index.php?option=com_content&view=article&id=147:2010-01-18-01-49-51&catid=31:arab&Itemid=61

0 ความคิดเห็น: